الخميس، 13 أكتوبر 2016

ذُبـــــــــــــــــــــابة

تحذير: ستندم كثيراً أثناء قراءة هذه التدوينة لإضاعتك وقتاً ثميناً كان يٌمكن أن تستغلّه في مُشاهدة بريكنج باد أو جزء جديد من saw .. أو في تهريب علبة سجائر جديدة من منزل جدّك أو مُحادثة حبيبتك العالقة في ازدحام شوارع القرم.

فهي تتحدث عن ذبابة.

الذبابة اللعينة ذاتها التي تُلاحقني كنسخةٍ مُعدّلة من ظِلّي .. في كُل مكان بدءً من الدخول من نافذة الحمّام إلى نافذة سيارة تعليم السياقة. قبل أسبوعين بالقرب من حديقة القرم كنت عالقةً صباحاً في ازدحام مٌغيظ وفي اللحظة التي وصلتُ فيها إلى الجسرِ رأيت ذبابة تلعق الغبار الشهيّ من النافذة وفكّرت: إحدانا فقط يُمكن أن تصل لنهاية الجسر. رفعت يدي عن المقود دون الضغط على البريك وبدأت بالحرب العاطفيّةِ معها، أقول أنها عاطفية لأنني لم أشأ حقاً إخراجها بل إغاظتها. لوّحت بيداي في كل زاوية تقفُ عليها حتّى اقتربت من النافذة .. بدأ لُعابي يسيل حماساً حِين ضغطت على زر فتحها و ... لم أشعر إلّا بيدِ المدرب تلفُّ المقود بقوة لتبعد السيارة عن السقوط .. تلقائياً نحو المسار الآخر. حِين أدركتُ أن السيارة واقفة عرضاً في كِلا الشارعين -مثل سيارة شرطة سخيفة تغلق الدوَّار- أدركتُ أنَّ الذبابة ضمنت لها عندي اهتماماً كبيراً لم يحظى به أحد. لوهلة -وفي اللحظة التي بدأت فيها السيارات خلفي تضرب الهرن بجنون والجميع يلوّحون بيدهم بغضب وبلغة إشارة تعني: هل جننتِ؟- شعرتُ أنّه بالإمكان خلق علاقات تتحمّل غيظاً واستنزافاً وغِياب كلّي عن "اللحظة" مع حيوانات لا تتطلب  شِراءً ولا عناية كالذبابة. ما أن أدركت هذه الفكرة الاجتماعية والمنصفة حتّى أصابتني نوبة ضحك لا مبالية بالمزاجِ الصباحيّ للآخرين .. استأنفتُ السياقة رغم مُدربي العجوز الذي أحسّ بالخطر على حياته: تبي تقتلينا؟ الله يلعنك.

الجدير بالذكر أنّ تلك الذبابة التي أسعدتني في ذاك الصباح المزدحم كانت نفسها التي كلّفتني ألم بغيضاً طويل المدى في ظهري. قبل سنة من الآن .. وفي اللحظة التي امتلأت فيها أرضية الحمام بالصابون عديم الرائحة .. رأيت ذات الذبابة تُحدق بي من زاوية جافّة لم يصلها غضبي المائيّ بعد .. فكّرت: بدأت المشاكل من جديد. اتخذّت الحرب يومها مأخذاً مائياً مِن قبلي و مُحلقاً مِن قبل صديقتي الملعونة .. رششتها بكل شيءٍ سائل توفّر أمامي .. حتى veet. حين أمسكت بالفوطة لأحقق ضربتي القاضية .. اختارت إحدى قدماي أن تحيد عن السراط لتُسقطني على حافة الحوض التي عطّلت وظائف ظهري وامتصّت من عُمري عشرين سنة. حتّى حينها لم أغضب .. لا شيء أكثر من الأنزعاج المّعتاد والمُتبادل بيني وبين الذبابة.

أكتب الآن لأتجنّب التفكير في كتابة الواجبِ اللغويّ الذي بدأ يحوم في خلفيٍة دماغي كذبابة من نوعٍ آخر .. ذبابةٍ أودّ قتلها .. وتشريحها .. ثم تناول جميع الأجزاء بطريقة صائبة في إعداد الصلصات.

السبت، 9 يوليو 2016

نافذة بلا زجاج


السّاعة: 3:46 فجراً.

-

لا أدري إن أوشكت الشمسُ على الشروق، سطحُ الغٌرفة لا يُبدي رأياً بذلك.

وِسادتي بيضاء عدا بعض البقع السوداء لأنني لم أنسى إزالة الكحل ليلة أمس.

أعلم أنّه ليس بإمكاني التأكّد من صلاحي ونفعي، لهذا اعتمدت على أحكام الجدار لأنّها تُرضيني وتُوافقني الرأي بي.

ما لم أتعمّده حقّاً هو إضافة بضع ألعابٍ أخرى في حديقة عقلي الخاصّة، ضاعفت الإضافة إغراء الحديقة للطفلِ الكائن بداخلي، الآن يستطيع اللعب بوضوح في الظّلام.

أستخدم السجّادة كواقي فعّال من حرارة اللابتوب، ليس لأنّ السرطان بشع بل لأن حرارة اللابتوب تُشعرني بعدم الصلاح الأخلاقيّ.

لماذا نهرب كلّما شعرنا بعهُرنا؟ لماذا نتغلغل فيه لنهرب أسرع؟

تتعدد الطرق، وينجو الجميع، من عهرهم، من بشاعتهم، من سطحيتهم، من وحشيتهم ومن حقيقتهم.

أُحاولُ ألّا تكون هذه التدوينة عن شيء لتعكس الجانب الأهم منّي ومن تحليلاتي للواقع، قد لا أكون مضطرة لشرحِ هذا لكن أدرك أنني أكتب في المقام الأول لأكثر القرّاء المخلصين: لــي.

هذا الصوت الذي يتعمّد تخطّي الحبال الصوتية ليخرج من أحشاءِ المغنّي إلى أحشائي، صوتٌ استفاق لتوّه من نومٍ لذيذ.

أعترف، أكتبُ الآن لأثبت ضعفي. أكتب لكيلا أرفع قدمي خطوة أخرى نحو المرحلة التالية، أكتب لتمنحني الكتابة عذراً آخر لكيلا أكونً بكامل جرأتي الآن لأقنع الآخرين بضرورة رجمي.

لا أشعر بالوحدة بقدر ما أشعر بضياع وقتي في شعوري بالوحدة.

لستُ موجودةً هُنا الآن، لستُ على سريري، لا أرتدي قميصاً بنفسجياً ولم ألف شعري الخفيف المُتساقط بمشبكٍ برتقاليّ.

أنا هُنا الآن، أخرجُ رأسي من كهفي المضغوط بالغازات السامّة والمُزيّن بغزلِ العنكبوت نحو الخارج، نحو الشمس التي تُعاكس السماء وتتبختر في لجوئها للأعلى، نحو مكانٍ تعرفُ أنّه لن يؤذيها. قد لا أختلف عن الشمسِ كثيراً، كِلانا تُخرج رأسها من مكان ما وتدفع جسمها للداخل خوفاً من التجلّي، خوفاً من الإندفاع الذي لا طائل منه.

لطالما تمنّيت ألّا أتمكّن من التفكير، من التخيّل أو من الإستيعاب. حقق لي هذا الثالوث مالم تحققه أيَّ قوة أخرى تدّعي بأنها موجودة، فقد حقق لي البؤس.

مخاوفنا الحقيقية لا تكمن في محض أوهام نسميّها الجزاء الأخير، بل هُنا، في البدايات المُتلذذة بإلتهامِ وقتنا و عواطفنا و مبادئنا و أسبابنا.

لقد عشتُ 21 سنة. أدركتُ فيها أنَّ كُلَّ شيئاً مهما بدا مهمّاً ليس سوى ضياعٍ مثاليّ للوقت.

ما جدوى العيش في عالمٍ لا يحترم وقتك؟ عالمٌ صمم نفسه ليستهلك كلَّ ما يعنيك، رمال الزمن المُتحرّكة.

لم أعد بِحاجة لفحص الآخرين سلوكياً، أو لتجربة حظّي بين الصداقات المتعددة، لم تعد هذه الحيوانات شبه الواعية تهمّني، لم يعد يهمّني شيء سوى تقبّل حقيقة ضياع وقتي بينما أتفحًص أفكارهم وأسبابهم وطرائقهم.

إلى قارئتي الوحيدة، إليّ، لا أأسف لإعلامكِ أنَّ هذه هي التدوينة الأخيرة، فقد فهمتُ كُلَّ ما يستدعي الفهم، لا حاجة للكتابة بعد الآن.

شكراً لإخلاصكِ، وشكراً للكتابة، لقد مهّدت لي بكُلِّ أدبٍ وترويّ حقيقة اللامعنى. شكراً لجميع الشخوص اللذين مرّوا من هُنا، شكراً للنافذة من زجاج.







                                                                 - الخــــــــاتمة -

السبت، 2 أبريل 2016

شيزوفرينيا



إمَّا أن يكون الجميع مصابون بالفصام أو أنا وحدي. أيَّاً يكُن، لا يُمكن أن نعيش معاً في ذات الواقع الذي نظنّ أننا نعيشه. وما الواقع سوى ما نختار سماعه ورؤيته والإيمان به؟ هذه الهلوسات .. هذا الصوت الذي يُناديني من الداخل ويدعوني لما يجعلني مريضة ومجنونة وتافهة في نظر الآخرين، هو الصوت الوحيد الذي أؤمن به. حتى صوت المحاضر لا يبدو لي حقيقياً .. بل مُجرد ترددات صوتية اختلقها الأخرين لتُضعف حِدَّة الأصوات الحقيقية بدواخلنا. لا يُمكن أن تكون قاعدة النحو تلك أهمّ من هذا الصوت الذي يُقاتِل ليُسمع، كما لا يُمكن لثرثرة عديلة ووصيفاتها أن تُعادل أهمّية رغبتنا المُلّحة في سماعِ صوتٍ أخرس يُمثل كل ما نحن بحاجةٍ إليه لنحظى بدقيقة سلام. كل ما يُمكن أن نراه قد رأيناه وكل ما أمكننا سماعه قد سمعناه، لا توجد مرحلة أخرى في هذه العمليّة التي لا يتعبّها السهر لتنال من حقيقتنا وهوّياتنا المضطهدة. لا يُمكن -تحت أيِّ ظرف- أن توجد حياة أخرى أشدّ بؤساً أو جمالاً من هذه الحياة، الإيمان بذلك كإيمانك بأنَّ الموزة المتعفّنة بجانبك ستتحول فجأة إلى تفاحة. كل من أمكنهم إقناع أنفسهم بذلك مجرد ضحايا للأمل. هذا الفكّ العريض الذي التهمنا جميعاً ولم يشبع بعد.
هذا الصوت الداخليّ .. هذا الصوت الأهم من كلّ صرخات الحياة الأولى .. هو كل ما يمكننا الإتِّكاء عليه بثقة وبلا قلق. هذا الصوت الذي قُتل مراراً وازدادت حدّتهُ في كُلِّ مرّة، هو ورقتنا الرابحة الوحيدة. لطالما أشفقت على من يبحثون عنه في الكتب والأديان والصلوات والأساطير. لا يُجيدون أن يخرسوا قليلاً .. قليلاً فقط .. ليسمعوا الصوت الوحيد الذي سينقذهم من فظاعة الحياة. هذا الإنقاذ لا يعني عدم وجود إصابات أو وفيّات، بل يعني قدرتك على الوقوف أمام مجتمعك وحياتك وأقنعتك وخوفك وطفولتك وأن تقول: هذا أنا .. هذا أنا.

الاثنين، 14 مارس 2016

على خيبتك؟


ها أنتِ الآن .. بعد مخاضٍ ظنَّ المُتحرِشان أنَّه سكتتكِ الأخيرة، تهربين من مشفاك الذي لوَّثَ عروقكِ بمُخدِّرٍ مُخادع تسرَّب لدماغٍ مُحاصر في نفسه، لُيراودهُ عن الحقيقةِ يوماً آخر .. تنزعين ثوبك الأبيض الذي ساهمت شركة نيدو في صنعه والمراعي لتزيينه بصورة بقرة مُستنسخه. تركضين لا يُخفّف سرعتك سوى ألم قدمك اليسرى، تركضين عودةً للواقع .. عودةً لقولِ الحقِّ مرةً أولى، للنقاش أوهمتك أدوية المشفى أنَّ موعدهُ فات.
ها هي تنتظركِ هُناك .. مُرتديَّةً ثوبها البنيّ الذي لطالما أراحكِ من "مطبّقة" الوادي وتاج أسود يعيد للخلف شعرها المُتطاير، ليست في أفضل حال ممّا تركتها آخر مرة لكنكِ تعلمين أنَّ ذلك لا يهم، فأنتِ هُنا الآن لتبعدي عنها كل خطرٍ "صباحيّ". تنظر إليك بعينيها العسليتين بحبٍّ وشغف لتلفَّ روحها بجسدكِ الهارب. تقتربين منها كطفلٍ يُوشك أن يُوبَّخ، لكن ما أن تُلامِسَ يدها جسدك حتّى تشعرين بها ترقص بِداخلك، تُحوِّلً عينيك في كل اتجاه وتتحمّل مسؤولية التلويح بيديكِ للمشفى الذي لن يسعهُ ماضيكِ. تنتزعينها مِنكِ ليحظى اللقاء بقداسته المُستحِقَّة، تلفينها رغماً عن السموم التي تملأ عروقك .. وكل الإخفاقات والأكاذيب التي رُميت فيكِ كمن يُفخّخ دون مسؤولية قنبلة في حارةٍ مُكتظَّة. تُمسكينَ يديها بشدة حتى تكاد تغرق في ثنايا كفَّيكِ وتتّجهين، عاريةً، نحو منزلكِ، نحو الساعة السابعة صباحاً في شتاءٍ يسبق التحاقكِ بالمدرسة.

-

تُدركين الآن، وأنتِ تلفّين الخيبة في حقيبة ترمينها على كتفك، أنَّ هذه الذكرى لن تُحمل على كتفكِ وحده، بل على كتفكِ الأخرى كذلك، حين ألحَّت عليكِ مُقاسمتها كل أثقالك. تبتعدين والأنين الصادر من طفلتكِ لا يُفلتُ منكِ، يغزو أحشائكِ كسرطانٍ لعين، يُعييكِ ويُضعفكِ. تعلمين أنَّ جسدك لن يُقاوِمَ دقيقةً أخرى .. لكنّكِ لا تكفّين عن السير، حتى هذه الدقيقة الأخيرة تستفزّكِ بمدَّتها القصيرة، حتى هي، ككل الدقائق، تستهلك أناكِ وتُضعفها، لكنّك لا تكفّين عن تحريك قدميك، ولا تفهمين لِما تبدو الدقيقة الآن كيوم آخر لعين رغم إخفاقك. خطوةً أخرى، وتودَّعين أناكِ ذات الخمس سنين وتستسلمين لإغراء المستقبل القريب بأن يأخذكِ إلى أبعد ممّا وصلتِ، إلى خيبةٍ أخرى .. أو ربَّما .. تحرّش آخر.








21\20\2000