الأحد، 29 أبريل 2018

ستّين نومة


ما الذي يجعلك تظن أنَّ هذه تفاحة حمراء؟ ما الذي يمنحك الثقة الكاملة بأنها ليست صفراء أو خضراء؟ كيف تعرف أنها تفاحة أصلاً؟ كيف نشترك أنا وأنت في تعريف هذا الشكل المكوّر؟ ماذا كان المنعطف اللغويّ الأولّ، الذي نمّط نظرتنا للعالم؟ إلى أيِ حدٍّ قاومناه كيلا يتفشّى فينا؟ كيلا يغزوا عقولنا مثل سرطانٍ لعين؟

لماذا تعرقلت عجلة النمو البشري؟ تقول الإحصاءات أنَّ نسبة الإختراعات البشرية قلّت بشكل تكاد تنعدم فيه مقارنةً بباقي العصور، نحنُ ثابتين نسبياً في تطورٍ يعزى لقرنٍ مضى، لماذا؟ التنميط، هذا العدو اللدود المصرّح له من قبل كل أيديولوجية إنسانية منظمة ظهرت قط، وتبّنته الحكومات والشرائع وصار جزءً لا يتجزأ من إنسانيتنا، حتّى أنَّ الحِياد عنه يصنّف كشذوذ مقيت، يُحاربه النظام بأكمله. هذا التنميط الذي يجعلنا نرى شجرةً وينمّط شعورنا وفكرتنا عنها، أصبحنا كالجراد، نفكّر ونشعر ونتشخصن بذات الطرائق. لسنا أفراداً حقاً، نحن حمقى مؤدلجين، مُنوّمين، وفي حالةٍ تستدعي شفقة الفرد من ذاته. هذا التنميط، الذي لا يكتمل إلا في أوكار الجزّارين، لا يتمّ حقاً إلا ببتر كل فردانية فينا، كل خلية وزاوية فكريّة خاصة نسمّيها "أنا"، كل هذا أمام ناظرنا ودون تخدير، جريمة كاملة، فلا مجال لتقصّي الفاعل، فالفاعل نحن، وهم، وهذا النظام الفوضوي المنحرف كلّه. قد لا تملك أدنى فكرةٍ عمّا أقوله الآن، وهذه عاقبةٌ طبيعية لوهمك المتأصل في اعتقادك بفهم نفسك، وثقتك العمياء المفجعة بأنك لم تخسر شيئاً قط، لا جزءً من فردانيتك، ولا أناك المستنجده بك.

تُدهشني قدرة الجهل الذاتي على الإقناع، حين تجهل نفسك، يسهل إقناعك بما لست عليه، كأن يُدرجك النظام تحت صنفٍ ما يعوزه ولا يُمكن أن يتحقق كماله المدنّس إلا به. نحن بارعين، بل وممثلين أوسكاريين، فيما يتعلّق بالشفقةِ على من هم ظاهري الفقر، ممن لا يجدون قوتاً، مأكلاً، ملبساً أو أماناً، هؤلاء المساكين الذين نتباهي بمساعدتهم بشتى أشكال موادّنا، من مالٍ أو دموع، لكننا نفشل في إرداك أنَّ البؤس الحقيقي هو حين تفتقر لنفسك داخلياً، وحِين لا تعود قادراً على استرداد فردانيتك الكامنة في أفكارك الخالصة، لأنَّ أفكارك الأولى هكِّرت وخرّبت منذ خطوتك الأولى كطفلٍ بريء، غير مدركٍ بعد لنوع التنميط الذي سيتعرّض إليه .. نحن الفقراء حقاً. يُؤخذ مِنك، تُعاد صناعتك حسب الطلب، ثمّ تصبح قابلاً للتصدير للإستخدام البشري.

الثلاثاء، 17 أبريل 2018

من ستكون، إن لم تكن قرداً؟

إبّان معضلةٍ إنسانيةٍ سحيقة واجهتها، تفكّرت في كل رابطة بشرية تجمعني بالعالم، محوطة بي بسهام التوقعات والأسوار المجتمعية الزائفة، مصنفةً لي بالـ"المواطنة"، كيفما شاء ذلك واتفق مع قوانين "التوطين" في بلدي، غارسةً فيَّ روح التيه بأعمق مما ظنت قدرةَ أيِّ شيءٍ على غزوِ دواخلي. توصّلت -في الليالي التي شربتُ فيها كمياتٍ قاتلة من الحليب- إلى أنني لم أنصف نفسي قط، وأنني لم أنظر إليها، ولا حتّى بأتفهِ المعاني وأكثرها عفويةً، نظرةً فردية، بل تكللت وجهات نظري عنّي بوجهات الآخرين عمّا يرونه بي، وعن تفسيراتهم لما أمنحه لهم على غير هوادة. لو أنَّ الجميع اختفى لوهلةٍ، لضِعتُ، ولما دللتُ الطريقَ إليَّ، ولاصطبغت تصرفاتي بكل الشخصيات المتناقضة والمؤثرة التي اختبرتها في الآخرين. في وهلةٍ كتلك، سيخبو إحساسي بمعناي، وذاتي، ولُكنت خِلالها كُلَّ شيءٍ، غير ما أنا عليه حقاً. لكُنت الجميع، منهم من نهروني، منهم من ملأني بصخبٍ شعوريّ كنتُ في غِنى عنه، ومنهم من لم يعرفني حقاً، ولم أعرفه، لكنني .. لوهلةِ، أكونُ هؤلاء جميعاً، لأن كل المرايا التي اعتدت رؤية نفسي فيها من خلال تقديرات الآخرين قد تهشّمت، وتهشّم معها حِسّي بنفسي. نحن لا شيء حين نسمحُ للآخرين بتأليفنا دوناً عنّا. أنت لا شيء حِين تختزل علاقتك بالآخرين لأغراضٍ إرشادية، مرورية .. تقودك لنفسك. أعلم، لقد سأمنا جميعاً من هراء المتحدثين بالتنمية البشرية، لم تسقط عيني على أحدهم دون أن أشعر بأنه حشرة، تتحرشج وسط حلقي وتمنعني من التنفس والكلام اِلتياعاً، واِعتباطاً. لكن لغرضٍ وجوديّ بحت، ولكيلا تُصدم بتيهك حين تفقد توجيهات الآخرين نحو نفسك، أخبرك، بينما ترسو وسط بلعومي بقايا حشرةٍ متحشرجة، أن تتأكد مِراراً من مجاديفك. أنت لست من تظن، بناءً على ما يظنون. هل يعجبك فنّك حقاً؟ هل أنت فخورٌ بما تخربشه من رسوماتٍ حسّاسة؟ أم أنَّ هذا رأي الآخرين فيك فحسب، بقيت متعلّقاً به كيلا تُشفق على نفسك، ويستلمك الأسى من حيث لم تحتسب؟ هل فكرت من خوفهم في مواجهتك؟ هل تمعّنت مُطولاً في صديقك حين يمتدح نصّاً لك؟ هل رأيتَ، بأمِّ روحك، رثاءه لكَ، حِين يرى انحسارك في موهبتك، لكن يخبئها بحذرٍ في جيبه؟ أين أنت من حرب المجاملات؟ وما الذي تجنيه أنت، وهم، من تبادل العسلِ الكلاميّ، دون أدنى صدق، لكن بشرف؟ لست مضطراً للنظر للآخرين لتنظر لنفسك، لطالما كُنت موجوداً، قبل أن يكونوا. أنت من أكلت التراب بمفردك من زوايا النافذة، وأنت من قررت خلع نعالك، لتنتشي وحيداً في التراب، بينما يغرس الحصى زواياه الحادة، وتخرم الأشواك باطن قدمك الطريّ، الناعم.

 أنت كُنت أولاً، لا آدم، ولا كُّل الفوضى التي تبعته. من ستكون حقاً، في كوكبٍ آخر، وبين مخلوقات لم ترها قط، وافدةً إليك من عوالم بعيدة؟ أتدرك حقاً، بكامل وعيك، الفرق بين أن تكون "البشريّ أنت"، و "نفسك أنت"؟ ماذا ستكون إن كُنت قرداً يلعق الحشرات من جبين رفيقه القرد، أو طيراً تتقاذفه الريح في جبال التبت؟ ماذا ستكون، إن كُنت ورقةً، صمّاء، في جوفِ أنبوبِ صرفٍ صحيّ؟ من أنت حقًاً، دون أن تكون الإنسان الإجتماعيّ، المُواطن، الأب، الأخ، والصديق؟ إلى ماذا ستقودك غرائزك؟ أو، بصيغةٍ أدقّ، من أين ستنبع غرائزك؟ من سيخلقها، حين تُقرر تكميم اذنك فِراراً من تعريفات الآخرين لك، وهلعاً من سِهامهم المنغرسة بعمق في لاوعيك؟ 

الأحد، 8 أبريل 2018

ما هو "زمانك"؟


 ما هو الزمن المناسب لتعيش فيه؟

لنعترف بذلك، نحن نعيش في زمن أقل إثارة من جميع الأزمان السابقة له. لا توجد قضيّة نتمسّك بها ونسترخص حياتنا دفاعاً عنها، حتّى القول الشائع بأن علينا صنع قضايانا بأنفسنا دون انتظار بزوغها من اللامكان، فارغ تماماً. لو اخترعنا قضيّة لحكَمتِ الجموع علينا بالنفي من دائرتها المؤمّنة بعناية الوعي الجمعيّ المشترك، لصنّفنا كمخبولين لا يفرقون بين الواقع وتبريراته الوهمية. وإن هممنا للمشاركة بقضايا موجودة، كقضية فلسطين أو الإحتباس الحراري أو فضيحة التحالف العربي في اليمن لما أثّرنا فيها بمقدار نملة، ولقدّر لنا أن نعطي كلّ ما نملك دون شرف الإستشهاد بآثارنا التي تجرفها آثار الآخرين وتُمحيها كأنها لم تكن قط، وكأننا لم نصنعها يوماً. وقد نصنّف فوق ذلك بأننا غير مسؤولين لحشرِ أنوفنا فيما لا يخصّ أوطاننا بحقّ، وأن أكثر ما يُمكن أن نجاهد بشأنه هو رفعتنا وتقدمنا كأفراد، بأن نولي جلّ اهتمامنا لحياتنا الفرديّة من عمل ووظائف ومسؤوليات توعوية أساسية يعرفها الجميع لكنهم ينتظرون، لأسباب تأسيسية، تذكيرنا لهم بها. لكن ما مصير العنفوان ذاك؟ ما مصير توقنا الغريب والممرض للمشاركة في شيءٍ أعظم من إنجازاتنا اليومية التافهة؟ أن نكون جزءً من حدثٍ عظيم يهزّ أركان العالم، مهما كانت عواقب الإهتزاز؟ أن نشعر بأن وجودنا هامّ، ولو مِتنا في محارق جماعية تتداخل فيها أجسادنا البالية المنسخلة من جلودها ولحومها، مكوّنة بذلك كتلة لحمٍ واحدة فاخرة. هذه الرغبة الخالصة بالتدمير الذاتيّ البطيء واللذيذ، الذي مع كل خطوة سيُجبرنا على فهم مغزى وجودنا المستفحل في وجوهنا المُغبرة. وكيف لنا، نحن العشرينيين، ألّا نرهب ونحزن لفكرةِ أنَّ هذا النَزَق الشبابيّ وإن كان مخالفاً لجميع أوجه المنطق، سيضمحلّ وتنسكر شوكته في ثلاثينية أعمارنا؟ يُقال بأن حياة الإنسان تبدأ من الثلاثين، لكن من منكم لم يرى ثلاثينيّاً هرِماً؟ بروحه، وبعاداته اليوميّة، ونُعاس عينيه الدائم؟

إذاً، وقد قيل ما قيل، رغم أنَّ وقوفنا على الإطلال وبكائها لن يُفيدنا إلا بقدرِ غرزة في جرحٍ متعفّن، ماذا يُمكن أن يكون "زمانك"؟ ما هي القضايا التي كنت ستهب لها نفسكَ فِداءً، بإندفاعٍ تكسوه نزعةٌ تدميرية شبِقه، دون أدنى ترددٍ وكأنّك تمنحُ يتيماً هديّة ذكرى الميلاد الأولى؟ أم أنّك، كمن يندفع لإطفاء جذوة حياته وحماسه الدنيويّ، ستكتفي ببضع إنجازات يوميّة لا تُرهق بالَ أحد؟