الخميس، 15 مارس 2018

The Seventh Seal: Review


تراجيديا الموت، وهم الميلاد، الوقت الإضافي الذي يهبك إياه الموت لإتّخاذ قرارتك النهائيّة، ومُحصلّة الكرامة الإنسانية التي نخونها أحياناً عن جهل، هذا بعض مما يعرضه لنا هذا الفيلم.

رغم أنّه أُنتج في 1957، وهو ضمن أعوام المخاض بالنسبة للسينما الفلسفية، إن لم يكن أوّلها، إلا أنّه تفوّق على أقرانه بعرضه أفكاراً لطالما اعترضت تفكير البشر، بخصوص وجودهم المحيّر لشدة فهمه رغم بساطته.

بلوك، فارسُ يودّ لو يعرف الخالق أكثر ليتلائم إيمانه مع نزعة المنطق لديه، يمر بتجارب مريرة لا تكشف له إلا ما يُفاقم جهله سوءاً، رغم منافسته المباشرة مع الموت بواسطة لعبة الشطرنج. تارةً يثق تماماً بقدرته على الإنتصار ضد الموت وتارةً أخرى يُحدّق فيه بتوجّس مستطير، بينما يجلس الموت أمامه ثابتاً دون أدنى تعبير سوى جحظ عينيه - ليس لإخافته، لأن الموت يدرك مُسبقاً أنَّ بلوك يودّ لو يموت سريعاً بين قبضة يديه - بل ليُمارس طبيعته المُريبة فحسب.

تتخلل الفيلم لحظات سعادة وأخرى يسودها الموت، وماذا يُمكن أن يُعطي الحياة حقّها أكثر من الحبّ وطفلٍ جميل؟ هذان هما جوف وميا وابنهما الصغير ميكيل. هذه العائلة تمثيل صريح وذكي لما تعنيه السعادة في حياة بشرٍ بُسطاء، فحين كانوا يرقصون مرحاً في أحد عروضهم، غير مؤثرين البتة في الحضور إلا بما يجعلهم محط سخرية، اقتربت جماعة من المبشرين يجلدون الضعفاء ويصرخون مبتهلين للإله، في جوٍ أثار ذعر الحاضرين اللذين سُرعان ما أسقطهم خوفهم أرضاً خِشيةً من نقمةٍ فجائية، أو من قدرة القسيس على اختيار كلماته بعناية لإرعابهم قدر الإمكان.

ضمن كل هؤلاء، يشهد المتابع تطور شخصية من البداية، جونز، بدءاً بخوفه من تحدثه دون قصد مع جمجمة في الصحراء إلى فقد إيمانه التام بكل ما يُمكن الإيمان بهِ في عالمٍ يظن أنه آلَ للجنون مُعجباً ومتباهياً برجعيّته. لكن حتى جونز، الفارس المغوار الشريف الذي أنقذ لتوّه فتاتاً من الإغتصاب وضمّها لرعايته، لم يسلم من الذعر المتفشّي نتيجة الصراع بين الموت والحياة. يخاف حيناً، وأحياناً أخرى يُدهش سيّده بذكاءه -أو، حين النظر إليه من زاوية مختلفة، استسلامه المُخجل في البحث عن الحقيقة والتفكير خارج المألوف-.

 في النهاية، لم يّعطِ صانع الفيلم أجوبة لعشرات الأسئلة المطروحة في حوارات ورموز الفيلم، بل ألقى قنبلة شكٍّ أخيرة حين أظهر جميع الشخصيات، عدا الأزواج السعداء، مُجبرين على الرقص مع الموت في تعبيرٍ جديد لما يُمكن أن تعنيه السعادة. كانوا يائسين لتوّهم قبل زيارة الموت الأخيرة، وهاهم يرقصون فرحاً حين آمنوا به أخيراً واستظلوا برداءه الأسود. رغم كل الألغاز التي يثيرها الفيلم، يوجد تأكيد وتصديق على حقيقة واحدة يُمكن أن يتفق البشر بشأنها، وهو أنَّ الفرح وحده، متمثلاً في عائلة جوف، يُمكنه أن يتصدّى الموت. رغم ذلك، التأكيد على حقيقةٍ كهذه ضروريّ للإستمرار في عرض المتضادات في الفيلم، منذ بدايته وحتى نهايته، لخلق شعورٍ يتغيّر بثبات نحو التفاؤل تارةً والسأم تارة أخرى، مثلما رقص الأموات في ظلّ الموت بينما اتجهت العائلة السعيدة نحو صباحٍ مُلهم. إدراك هذه الضرورة مهمّ، لكيلا نصل لخاتمةٍ مُضللة وهي أن الفرح وحده يمنحنا وقتاً إضافياً في الحياة. فكل شيء يسير نحو نهايةٍ حتميّة، ونحن لا نملك سوى التلاعب بلعبة الشطرنج مع الموت وتأجيل خطوتنا التالية المتحققة لا مَحالة، مثلما أجّلها بلوك وتجرّعته في خضم كنيسةٍ مشيّدة بالحجر والجصّ لمنع الفناء.

 قد يبدو الفيلم تافهاً ومحظ هراء لمن لم يُدهش من قبل بالخط الفاصل بين الحياة والموت، وبين العدم والوجود، فكيف يُمكننا أن نفسّر الهوّة بينهما؟ في الحقيقة، لا يُمكننا ذلك، كل إجابة تقود لسؤال آخر أكثر إلحاحاً، وهذا بالضبط ما نجحت عبقرية إنغمار برغمان في تحقيقه. 

الأربعاء، 14 مارس 2018

مِيلاد محمود درويش وآينشتاين، وفاة ستيفن هوكينغ: انحلالُ مُدرَك.

ماذا يعني أن يموت فرد ما؟ ولماذا يجب علينا التأثر بوفاتِ فردٍ مُعيّن رغم أن مشاهدتنا لصورِ القتل الجماعيّ، مثل الهولوكوست ومذبحة الأمريكان الأصليين -أجل، أمريكان، لأن كريستوفر كولومبوس محظ جاهل لعين ومُضلّل- لن تدفعنا لأخذ نفسٍ عميق وتأمل أثر فقدان أحدهم، بل في الحقيقة، لن تؤثر فينا إطلاقاً، بل ستُغضبنا، إن كنّا بشراً حقيقيين، أو تقربنا أكثر من فهم الطبيعة البشرية إن كنّا محظ عُقلاء متفلسفين وباردين لم يعد الفقدان يؤثر فيهم إلا بقدر ما يلهمهم أفكاراً مُحرجة عن أصلنا ككائنات متوحّشة تختار أحياناً نِسيان تحضّرها غير المُتأصل كما ينبغي في أحماضها النووية.

كُلما مات فردٌ مؤثر في حياتي، ولو عن بُعد، لا أتأثر حقاً بِوفاته إلا بقدر ما تجعلني مُدركة، ببالغ التأثّر العاطفي المُوجع، بما سيكون عليه بعد انحلاله الماديّ. ماذا سيكون؟ كيف يُعقل ألا يُوجد الأشخاص فجأه؟ وكيف بإمكاننا مواساة أنفسنا في وجودنا، حين نُدرك أننا عالقين ومحصورين في المادة التي اختفت للتوّ من أمامنا، وغدت شيئاً لا يُذكر؟ نحن لا نفكر في غيرنا إلا لفهم أنفسنا، ولندرك قبل فوات الأوان ما سنكون، أو ما يُمكن أن نكون، أو ما يُمكن أن ندرسه ونخوض في غماره لنُدرك ما يُمكن أن نكون، قبل أن يسوقنا الوهم نحو خواتِم مُحددة مًسبقاً لتعاظم من فرصة هدر كرامتنا الإنسانية والعقلانية التي لطالما صارعنا أنفسنا للحفاظ عليها حتّى النفس الأخير.

الميلاد: وُلِد أحدهم، أصبح شيئاً، ثُم أصبح شيئاً يُمكنك التعلق به وإيهام نفسك بأن وجودك قائمٌ على وجوده فحسب. سيسيّرك هذا الشيء، قد يحيلك سراباً أو يؤكّد على حقيقتك، لكن الحقيقة الأولى غير القابلة للنقض، هي أنّك موجود، بوجود المواليد الجدد أو بعدمهم، وبوجود من وُجِدَ قبلك أو بعدمهم، أنت هُنا الآن، تتنفس، تُفكّر، ترقص وتتمنى ثم تموت. لا يعتمد وجودك على شيءٍ حقّاً. أنت المادة، والمادة وحدها تحفظ الوجود. وبقدر ما يبدو التفكير في انحلالك الماديّ المحتوم مُزرياً ومُحطماً لنُبل العَيشِ فيك، لكنه حقيقةٌ أخرى لن تٌغادرك وإن غادرتها برصفِ الأوهامِ وضمّها بعنايةِ نحو صدركَ الذي يخبو ببطئ.

تخيّل معي الآن أنك تعمل في مشرحة. كل صباح، تُساق إليك الجثث مُغطّاة بالأبيض لتجميل، أو مُفاقمة، حدّة الشعور بالموت والفناء. تُزيل الغطاء من رأس الجثّة، تتأمّله، الآن ينبغي عليك بَقرهُ من منتصفه لتصل حواف السكين لأعلى الأذنين تماماً، بكل احترافية ودون أدنى رَجفة. الآن، ستضع السكين جانباً لتستعين بكفّيك القويين لتوسعة الشرخ النصفيّ، سيتطلب منك ذلك قوّةً جسديّةً فحسب، ولن تشعر بالشفقةِ على نفسك لأنك فشلت في الإشفاق على الإنسان الحقيقيّ تحت رحمةِ يديك. لن يُمكنك إنكار أنك لم تعد قادراً على التواصل معه بإنسانية، أيّاً كان ما يحمله هذه المصطلح من مقاصد عاطفية وأخرى إدراكيّة لما يُمكن أن تكون حين تؤول مكانه. 

الخميس، 1 مارس 2018

لا يُغادِرُ .. مُطلقاً.


لا يُغادِرُ مطلقاً.
موجودٌ كعلقةٍ في أخمض الشريان الوريديّ، متشبّث بكل خليةٍ سابحة. لا يُغادِرُ مطلقاً.
يرنو .. يئنُّ .. يأبى الخضوع لرغبتي الخالصة في الحياة .. ثم ينأى عميقاً، أبعد عنّي وأقربَ إليّ. لا يُغادِرُ مُطلقاً.
أستعيدُ رزانتي، أقيم صلواتي الخاصّة عليّ، مِنّي .. وإليّ. لا يُغادِرُ مُطلقاً.
أعلو .. أنتفضُ وأُغنّي .. أُراقص أصابعي على سيمفونية بيتهوفن التاسعة. لا يُغادِرُ مُطلقاً.
بموجةً لا يُخطأها الترددُ، أستمع إليّ، كل مرة كالمرة الأولى، أُريح كفّي على عتبةِ دواخلي: أنا لي .. أنا لي.
لا يُغادِرُ .. مُطلقاً.
أسير في سراطٍ شخصنتهُ حديثاً. أضرب الأرض بقدمي: هذه خريطتي .. خُطاي .. وخطيئتي.
لا يُغادِر .. لَم يُغادِر.
أثق كفاية لكيلا أبحث عنّي، أعرفني. حقّقتني. خلقتُ خنصري وربضتني مرّتين لأرسخ.
يرنو .. يُبددني رويداً .. يُخرج سبابته ليرسم قرنينِ متعاكسين على شفتي. شعّثني .. بلّدني .. وبدّدني.
لا يُغادِرُ .. مُطلقاً.