الأحد، 29 أبريل 2018

ستّين نومة


ما الذي يجعلك تظن أنَّ هذه تفاحة حمراء؟ ما الذي يمنحك الثقة الكاملة بأنها ليست صفراء أو خضراء؟ كيف تعرف أنها تفاحة أصلاً؟ كيف نشترك أنا وأنت في تعريف هذا الشكل المكوّر؟ ماذا كان المنعطف اللغويّ الأولّ، الذي نمّط نظرتنا للعالم؟ إلى أيِ حدٍّ قاومناه كيلا يتفشّى فينا؟ كيلا يغزوا عقولنا مثل سرطانٍ لعين؟

لماذا تعرقلت عجلة النمو البشري؟ تقول الإحصاءات أنَّ نسبة الإختراعات البشرية قلّت بشكل تكاد تنعدم فيه مقارنةً بباقي العصور، نحنُ ثابتين نسبياً في تطورٍ يعزى لقرنٍ مضى، لماذا؟ التنميط، هذا العدو اللدود المصرّح له من قبل كل أيديولوجية إنسانية منظمة ظهرت قط، وتبّنته الحكومات والشرائع وصار جزءً لا يتجزأ من إنسانيتنا، حتّى أنَّ الحِياد عنه يصنّف كشذوذ مقيت، يُحاربه النظام بأكمله. هذا التنميط الذي يجعلنا نرى شجرةً وينمّط شعورنا وفكرتنا عنها، أصبحنا كالجراد، نفكّر ونشعر ونتشخصن بذات الطرائق. لسنا أفراداً حقاً، نحن حمقى مؤدلجين، مُنوّمين، وفي حالةٍ تستدعي شفقة الفرد من ذاته. هذا التنميط، الذي لا يكتمل إلا في أوكار الجزّارين، لا يتمّ حقاً إلا ببتر كل فردانية فينا، كل خلية وزاوية فكريّة خاصة نسمّيها "أنا"، كل هذا أمام ناظرنا ودون تخدير، جريمة كاملة، فلا مجال لتقصّي الفاعل، فالفاعل نحن، وهم، وهذا النظام الفوضوي المنحرف كلّه. قد لا تملك أدنى فكرةٍ عمّا أقوله الآن، وهذه عاقبةٌ طبيعية لوهمك المتأصل في اعتقادك بفهم نفسك، وثقتك العمياء المفجعة بأنك لم تخسر شيئاً قط، لا جزءً من فردانيتك، ولا أناك المستنجده بك.

تُدهشني قدرة الجهل الذاتي على الإقناع، حين تجهل نفسك، يسهل إقناعك بما لست عليه، كأن يُدرجك النظام تحت صنفٍ ما يعوزه ولا يُمكن أن يتحقق كماله المدنّس إلا به. نحن بارعين، بل وممثلين أوسكاريين، فيما يتعلّق بالشفقةِ على من هم ظاهري الفقر، ممن لا يجدون قوتاً، مأكلاً، ملبساً أو أماناً، هؤلاء المساكين الذين نتباهي بمساعدتهم بشتى أشكال موادّنا، من مالٍ أو دموع، لكننا نفشل في إرداك أنَّ البؤس الحقيقي هو حين تفتقر لنفسك داخلياً، وحِين لا تعود قادراً على استرداد فردانيتك الكامنة في أفكارك الخالصة، لأنَّ أفكارك الأولى هكِّرت وخرّبت منذ خطوتك الأولى كطفلٍ بريء، غير مدركٍ بعد لنوع التنميط الذي سيتعرّض إليه .. نحن الفقراء حقاً. يُؤخذ مِنك، تُعاد صناعتك حسب الطلب، ثمّ تصبح قابلاً للتصدير للإستخدام البشري.

الثلاثاء، 17 أبريل 2018

من ستكون، إن لم تكن قرداً؟

إبّان معضلةٍ إنسانيةٍ سحيقة واجهتها، تفكّرت في كل رابطة بشرية تجمعني بالعالم، محوطة بي بسهام التوقعات والأسوار المجتمعية الزائفة، مصنفةً لي بالـ"المواطنة"، كيفما شاء ذلك واتفق مع قوانين "التوطين" في بلدي، غارسةً فيَّ روح التيه بأعمق مما ظنت قدرةَ أيِّ شيءٍ على غزوِ دواخلي. توصّلت -في الليالي التي شربتُ فيها كمياتٍ قاتلة من الحليب- إلى أنني لم أنصف نفسي قط، وأنني لم أنظر إليها، ولا حتّى بأتفهِ المعاني وأكثرها عفويةً، نظرةً فردية، بل تكللت وجهات نظري عنّي بوجهات الآخرين عمّا يرونه بي، وعن تفسيراتهم لما أمنحه لهم على غير هوادة. لو أنَّ الجميع اختفى لوهلةٍ، لضِعتُ، ولما دللتُ الطريقَ إليَّ، ولاصطبغت تصرفاتي بكل الشخصيات المتناقضة والمؤثرة التي اختبرتها في الآخرين. في وهلةٍ كتلك، سيخبو إحساسي بمعناي، وذاتي، ولُكنت خِلالها كُلَّ شيءٍ، غير ما أنا عليه حقاً. لكُنت الجميع، منهم من نهروني، منهم من ملأني بصخبٍ شعوريّ كنتُ في غِنى عنه، ومنهم من لم يعرفني حقاً، ولم أعرفه، لكنني .. لوهلةِ، أكونُ هؤلاء جميعاً، لأن كل المرايا التي اعتدت رؤية نفسي فيها من خلال تقديرات الآخرين قد تهشّمت، وتهشّم معها حِسّي بنفسي. نحن لا شيء حين نسمحُ للآخرين بتأليفنا دوناً عنّا. أنت لا شيء حِين تختزل علاقتك بالآخرين لأغراضٍ إرشادية، مرورية .. تقودك لنفسك. أعلم، لقد سأمنا جميعاً من هراء المتحدثين بالتنمية البشرية، لم تسقط عيني على أحدهم دون أن أشعر بأنه حشرة، تتحرشج وسط حلقي وتمنعني من التنفس والكلام اِلتياعاً، واِعتباطاً. لكن لغرضٍ وجوديّ بحت، ولكيلا تُصدم بتيهك حين تفقد توجيهات الآخرين نحو نفسك، أخبرك، بينما ترسو وسط بلعومي بقايا حشرةٍ متحشرجة، أن تتأكد مِراراً من مجاديفك. أنت لست من تظن، بناءً على ما يظنون. هل يعجبك فنّك حقاً؟ هل أنت فخورٌ بما تخربشه من رسوماتٍ حسّاسة؟ أم أنَّ هذا رأي الآخرين فيك فحسب، بقيت متعلّقاً به كيلا تُشفق على نفسك، ويستلمك الأسى من حيث لم تحتسب؟ هل فكرت من خوفهم في مواجهتك؟ هل تمعّنت مُطولاً في صديقك حين يمتدح نصّاً لك؟ هل رأيتَ، بأمِّ روحك، رثاءه لكَ، حِين يرى انحسارك في موهبتك، لكن يخبئها بحذرٍ في جيبه؟ أين أنت من حرب المجاملات؟ وما الذي تجنيه أنت، وهم، من تبادل العسلِ الكلاميّ، دون أدنى صدق، لكن بشرف؟ لست مضطراً للنظر للآخرين لتنظر لنفسك، لطالما كُنت موجوداً، قبل أن يكونوا. أنت من أكلت التراب بمفردك من زوايا النافذة، وأنت من قررت خلع نعالك، لتنتشي وحيداً في التراب، بينما يغرس الحصى زواياه الحادة، وتخرم الأشواك باطن قدمك الطريّ، الناعم.

 أنت كُنت أولاً، لا آدم، ولا كُّل الفوضى التي تبعته. من ستكون حقاً، في كوكبٍ آخر، وبين مخلوقات لم ترها قط، وافدةً إليك من عوالم بعيدة؟ أتدرك حقاً، بكامل وعيك، الفرق بين أن تكون "البشريّ أنت"، و "نفسك أنت"؟ ماذا ستكون إن كُنت قرداً يلعق الحشرات من جبين رفيقه القرد، أو طيراً تتقاذفه الريح في جبال التبت؟ ماذا ستكون، إن كُنت ورقةً، صمّاء، في جوفِ أنبوبِ صرفٍ صحيّ؟ من أنت حقًاً، دون أن تكون الإنسان الإجتماعيّ، المُواطن، الأب، الأخ، والصديق؟ إلى ماذا ستقودك غرائزك؟ أو، بصيغةٍ أدقّ، من أين ستنبع غرائزك؟ من سيخلقها، حين تُقرر تكميم اذنك فِراراً من تعريفات الآخرين لك، وهلعاً من سِهامهم المنغرسة بعمق في لاوعيك؟ 

الأحد، 8 أبريل 2018

ما هو "زمانك"؟


 ما هو الزمن المناسب لتعيش فيه؟

لنعترف بذلك، نحن نعيش في زمن أقل إثارة من جميع الأزمان السابقة له. لا توجد قضيّة نتمسّك بها ونسترخص حياتنا دفاعاً عنها، حتّى القول الشائع بأن علينا صنع قضايانا بأنفسنا دون انتظار بزوغها من اللامكان، فارغ تماماً. لو اخترعنا قضيّة لحكَمتِ الجموع علينا بالنفي من دائرتها المؤمّنة بعناية الوعي الجمعيّ المشترك، لصنّفنا كمخبولين لا يفرقون بين الواقع وتبريراته الوهمية. وإن هممنا للمشاركة بقضايا موجودة، كقضية فلسطين أو الإحتباس الحراري أو فضيحة التحالف العربي في اليمن لما أثّرنا فيها بمقدار نملة، ولقدّر لنا أن نعطي كلّ ما نملك دون شرف الإستشهاد بآثارنا التي تجرفها آثار الآخرين وتُمحيها كأنها لم تكن قط، وكأننا لم نصنعها يوماً. وقد نصنّف فوق ذلك بأننا غير مسؤولين لحشرِ أنوفنا فيما لا يخصّ أوطاننا بحقّ، وأن أكثر ما يُمكن أن نجاهد بشأنه هو رفعتنا وتقدمنا كأفراد، بأن نولي جلّ اهتمامنا لحياتنا الفرديّة من عمل ووظائف ومسؤوليات توعوية أساسية يعرفها الجميع لكنهم ينتظرون، لأسباب تأسيسية، تذكيرنا لهم بها. لكن ما مصير العنفوان ذاك؟ ما مصير توقنا الغريب والممرض للمشاركة في شيءٍ أعظم من إنجازاتنا اليومية التافهة؟ أن نكون جزءً من حدثٍ عظيم يهزّ أركان العالم، مهما كانت عواقب الإهتزاز؟ أن نشعر بأن وجودنا هامّ، ولو مِتنا في محارق جماعية تتداخل فيها أجسادنا البالية المنسخلة من جلودها ولحومها، مكوّنة بذلك كتلة لحمٍ واحدة فاخرة. هذه الرغبة الخالصة بالتدمير الذاتيّ البطيء واللذيذ، الذي مع كل خطوة سيُجبرنا على فهم مغزى وجودنا المستفحل في وجوهنا المُغبرة. وكيف لنا، نحن العشرينيين، ألّا نرهب ونحزن لفكرةِ أنَّ هذا النَزَق الشبابيّ وإن كان مخالفاً لجميع أوجه المنطق، سيضمحلّ وتنسكر شوكته في ثلاثينية أعمارنا؟ يُقال بأن حياة الإنسان تبدأ من الثلاثين، لكن من منكم لم يرى ثلاثينيّاً هرِماً؟ بروحه، وبعاداته اليوميّة، ونُعاس عينيه الدائم؟

إذاً، وقد قيل ما قيل، رغم أنَّ وقوفنا على الإطلال وبكائها لن يُفيدنا إلا بقدرِ غرزة في جرحٍ متعفّن، ماذا يُمكن أن يكون "زمانك"؟ ما هي القضايا التي كنت ستهب لها نفسكَ فِداءً، بإندفاعٍ تكسوه نزعةٌ تدميرية شبِقه، دون أدنى ترددٍ وكأنّك تمنحُ يتيماً هديّة ذكرى الميلاد الأولى؟ أم أنّك، كمن يندفع لإطفاء جذوة حياته وحماسه الدنيويّ، ستكتفي ببضع إنجازات يوميّة لا تُرهق بالَ أحد؟  

الخميس، 15 مارس 2018

The Seventh Seal: Review


تراجيديا الموت، وهم الميلاد، الوقت الإضافي الذي يهبك إياه الموت لإتّخاذ قرارتك النهائيّة، ومُحصلّة الكرامة الإنسانية التي نخونها أحياناً عن جهل، هذا بعض مما يعرضه لنا هذا الفيلم.

رغم أنّه أُنتج في 1957، وهو ضمن أعوام المخاض بالنسبة للسينما الفلسفية، إن لم يكن أوّلها، إلا أنّه تفوّق على أقرانه بعرضه أفكاراً لطالما اعترضت تفكير البشر، بخصوص وجودهم المحيّر لشدة فهمه رغم بساطته.

بلوك، فارسُ يودّ لو يعرف الخالق أكثر ليتلائم إيمانه مع نزعة المنطق لديه، يمر بتجارب مريرة لا تكشف له إلا ما يُفاقم جهله سوءاً، رغم منافسته المباشرة مع الموت بواسطة لعبة الشطرنج. تارةً يثق تماماً بقدرته على الإنتصار ضد الموت وتارةً أخرى يُحدّق فيه بتوجّس مستطير، بينما يجلس الموت أمامه ثابتاً دون أدنى تعبير سوى جحظ عينيه - ليس لإخافته، لأن الموت يدرك مُسبقاً أنَّ بلوك يودّ لو يموت سريعاً بين قبضة يديه - بل ليُمارس طبيعته المُريبة فحسب.

تتخلل الفيلم لحظات سعادة وأخرى يسودها الموت، وماذا يُمكن أن يُعطي الحياة حقّها أكثر من الحبّ وطفلٍ جميل؟ هذان هما جوف وميا وابنهما الصغير ميكيل. هذه العائلة تمثيل صريح وذكي لما تعنيه السعادة في حياة بشرٍ بُسطاء، فحين كانوا يرقصون مرحاً في أحد عروضهم، غير مؤثرين البتة في الحضور إلا بما يجعلهم محط سخرية، اقتربت جماعة من المبشرين يجلدون الضعفاء ويصرخون مبتهلين للإله، في جوٍ أثار ذعر الحاضرين اللذين سُرعان ما أسقطهم خوفهم أرضاً خِشيةً من نقمةٍ فجائية، أو من قدرة القسيس على اختيار كلماته بعناية لإرعابهم قدر الإمكان.

ضمن كل هؤلاء، يشهد المتابع تطور شخصية من البداية، جونز، بدءاً بخوفه من تحدثه دون قصد مع جمجمة في الصحراء إلى فقد إيمانه التام بكل ما يُمكن الإيمان بهِ في عالمٍ يظن أنه آلَ للجنون مُعجباً ومتباهياً برجعيّته. لكن حتى جونز، الفارس المغوار الشريف الذي أنقذ لتوّه فتاتاً من الإغتصاب وضمّها لرعايته، لم يسلم من الذعر المتفشّي نتيجة الصراع بين الموت والحياة. يخاف حيناً، وأحياناً أخرى يُدهش سيّده بذكاءه -أو، حين النظر إليه من زاوية مختلفة، استسلامه المُخجل في البحث عن الحقيقة والتفكير خارج المألوف-.

 في النهاية، لم يّعطِ صانع الفيلم أجوبة لعشرات الأسئلة المطروحة في حوارات ورموز الفيلم، بل ألقى قنبلة شكٍّ أخيرة حين أظهر جميع الشخصيات، عدا الأزواج السعداء، مُجبرين على الرقص مع الموت في تعبيرٍ جديد لما يُمكن أن تعنيه السعادة. كانوا يائسين لتوّهم قبل زيارة الموت الأخيرة، وهاهم يرقصون فرحاً حين آمنوا به أخيراً واستظلوا برداءه الأسود. رغم كل الألغاز التي يثيرها الفيلم، يوجد تأكيد وتصديق على حقيقة واحدة يُمكن أن يتفق البشر بشأنها، وهو أنَّ الفرح وحده، متمثلاً في عائلة جوف، يُمكنه أن يتصدّى الموت. رغم ذلك، التأكيد على حقيقةٍ كهذه ضروريّ للإستمرار في عرض المتضادات في الفيلم، منذ بدايته وحتى نهايته، لخلق شعورٍ يتغيّر بثبات نحو التفاؤل تارةً والسأم تارة أخرى، مثلما رقص الأموات في ظلّ الموت بينما اتجهت العائلة السعيدة نحو صباحٍ مُلهم. إدراك هذه الضرورة مهمّ، لكيلا نصل لخاتمةٍ مُضللة وهي أن الفرح وحده يمنحنا وقتاً إضافياً في الحياة. فكل شيء يسير نحو نهايةٍ حتميّة، ونحن لا نملك سوى التلاعب بلعبة الشطرنج مع الموت وتأجيل خطوتنا التالية المتحققة لا مَحالة، مثلما أجّلها بلوك وتجرّعته في خضم كنيسةٍ مشيّدة بالحجر والجصّ لمنع الفناء.

 قد يبدو الفيلم تافهاً ومحظ هراء لمن لم يُدهش من قبل بالخط الفاصل بين الحياة والموت، وبين العدم والوجود، فكيف يُمكننا أن نفسّر الهوّة بينهما؟ في الحقيقة، لا يُمكننا ذلك، كل إجابة تقود لسؤال آخر أكثر إلحاحاً، وهذا بالضبط ما نجحت عبقرية إنغمار برغمان في تحقيقه. 

الأربعاء، 14 مارس 2018

مِيلاد محمود درويش وآينشتاين، وفاة ستيفن هوكينغ: انحلالُ مُدرَك.

ماذا يعني أن يموت فرد ما؟ ولماذا يجب علينا التأثر بوفاتِ فردٍ مُعيّن رغم أن مشاهدتنا لصورِ القتل الجماعيّ، مثل الهولوكوست ومذبحة الأمريكان الأصليين -أجل، أمريكان، لأن كريستوفر كولومبوس محظ جاهل لعين ومُضلّل- لن تدفعنا لأخذ نفسٍ عميق وتأمل أثر فقدان أحدهم، بل في الحقيقة، لن تؤثر فينا إطلاقاً، بل ستُغضبنا، إن كنّا بشراً حقيقيين، أو تقربنا أكثر من فهم الطبيعة البشرية إن كنّا محظ عُقلاء متفلسفين وباردين لم يعد الفقدان يؤثر فيهم إلا بقدر ما يلهمهم أفكاراً مُحرجة عن أصلنا ككائنات متوحّشة تختار أحياناً نِسيان تحضّرها غير المُتأصل كما ينبغي في أحماضها النووية.

كُلما مات فردٌ مؤثر في حياتي، ولو عن بُعد، لا أتأثر حقاً بِوفاته إلا بقدر ما تجعلني مُدركة، ببالغ التأثّر العاطفي المُوجع، بما سيكون عليه بعد انحلاله الماديّ. ماذا سيكون؟ كيف يُعقل ألا يُوجد الأشخاص فجأه؟ وكيف بإمكاننا مواساة أنفسنا في وجودنا، حين نُدرك أننا عالقين ومحصورين في المادة التي اختفت للتوّ من أمامنا، وغدت شيئاً لا يُذكر؟ نحن لا نفكر في غيرنا إلا لفهم أنفسنا، ولندرك قبل فوات الأوان ما سنكون، أو ما يُمكن أن نكون، أو ما يُمكن أن ندرسه ونخوض في غماره لنُدرك ما يُمكن أن نكون، قبل أن يسوقنا الوهم نحو خواتِم مُحددة مًسبقاً لتعاظم من فرصة هدر كرامتنا الإنسانية والعقلانية التي لطالما صارعنا أنفسنا للحفاظ عليها حتّى النفس الأخير.

الميلاد: وُلِد أحدهم، أصبح شيئاً، ثُم أصبح شيئاً يُمكنك التعلق به وإيهام نفسك بأن وجودك قائمٌ على وجوده فحسب. سيسيّرك هذا الشيء، قد يحيلك سراباً أو يؤكّد على حقيقتك، لكن الحقيقة الأولى غير القابلة للنقض، هي أنّك موجود، بوجود المواليد الجدد أو بعدمهم، وبوجود من وُجِدَ قبلك أو بعدمهم، أنت هُنا الآن، تتنفس، تُفكّر، ترقص وتتمنى ثم تموت. لا يعتمد وجودك على شيءٍ حقّاً. أنت المادة، والمادة وحدها تحفظ الوجود. وبقدر ما يبدو التفكير في انحلالك الماديّ المحتوم مُزرياً ومُحطماً لنُبل العَيشِ فيك، لكنه حقيقةٌ أخرى لن تٌغادرك وإن غادرتها برصفِ الأوهامِ وضمّها بعنايةِ نحو صدركَ الذي يخبو ببطئ.

تخيّل معي الآن أنك تعمل في مشرحة. كل صباح، تُساق إليك الجثث مُغطّاة بالأبيض لتجميل، أو مُفاقمة، حدّة الشعور بالموت والفناء. تُزيل الغطاء من رأس الجثّة، تتأمّله، الآن ينبغي عليك بَقرهُ من منتصفه لتصل حواف السكين لأعلى الأذنين تماماً، بكل احترافية ودون أدنى رَجفة. الآن، ستضع السكين جانباً لتستعين بكفّيك القويين لتوسعة الشرخ النصفيّ، سيتطلب منك ذلك قوّةً جسديّةً فحسب، ولن تشعر بالشفقةِ على نفسك لأنك فشلت في الإشفاق على الإنسان الحقيقيّ تحت رحمةِ يديك. لن يُمكنك إنكار أنك لم تعد قادراً على التواصل معه بإنسانية، أيّاً كان ما يحمله هذه المصطلح من مقاصد عاطفية وأخرى إدراكيّة لما يُمكن أن تكون حين تؤول مكانه. 

الخميس، 1 مارس 2018

لا يُغادِرُ .. مُطلقاً.


لا يُغادِرُ مطلقاً.
موجودٌ كعلقةٍ في أخمض الشريان الوريديّ، متشبّث بكل خليةٍ سابحة. لا يُغادِرُ مطلقاً.
يرنو .. يئنُّ .. يأبى الخضوع لرغبتي الخالصة في الحياة .. ثم ينأى عميقاً، أبعد عنّي وأقربَ إليّ. لا يُغادِرُ مُطلقاً.
أستعيدُ رزانتي، أقيم صلواتي الخاصّة عليّ، مِنّي .. وإليّ. لا يُغادِرُ مُطلقاً.
أعلو .. أنتفضُ وأُغنّي .. أُراقص أصابعي على سيمفونية بيتهوفن التاسعة. لا يُغادِرُ مُطلقاً.
بموجةً لا يُخطأها الترددُ، أستمع إليّ، كل مرة كالمرة الأولى، أُريح كفّي على عتبةِ دواخلي: أنا لي .. أنا لي.
لا يُغادِرُ .. مُطلقاً.
أسير في سراطٍ شخصنتهُ حديثاً. أضرب الأرض بقدمي: هذه خريطتي .. خُطاي .. وخطيئتي.
لا يُغادِر .. لَم يُغادِر.
أثق كفاية لكيلا أبحث عنّي، أعرفني. حقّقتني. خلقتُ خنصري وربضتني مرّتين لأرسخ.
يرنو .. يُبددني رويداً .. يُخرج سبابته ليرسم قرنينِ متعاكسين على شفتي. شعّثني .. بلّدني .. وبدّدني.
لا يُغادِرُ .. مُطلقاً.


الأحد، 25 فبراير 2018

الفِطرة الأولى - الجزء الأول



الفِطرة الأولى
(1)

بقلوب مُترعةٍ بقلقٍ غريب باعث للإطمئنان، جلست إحداهما بجانب الأخرى دون الإلتفات إليها.

بينما كانت تتحرك يمنة ويسرة بحثاً عن بقعة مريحة في الكرسي الصغير المكسور، فكرت أن قلقها ناتج عن حدسٍ سليم بأن الأيام المصيرية القادمة ستحدد العشرين عاماً القادمة في حياتها. لم تكف عن نقر الطاولة بأصابعها ذات الأظافر القصيرة والدموية من فرط قضمها.

حتى هذه اللحظة، لم تفكر بالإلتفات ليسارها لرؤية الكائنة الغامضة بجانبها. كانت جالسة دونما حراك، واضعة كفها على خدها الأيمن ومتسمّرة تتأمل السبورة البيضاء أمامها. لم يبد أنها تكترث لشيء، ولا حتى لحجابها الذي يكاد يسقط. لم تكترث لشيء سوى النظر للفراغ في مشهد أثار ريبة الفتاة بجانبها، والتي التفتت أخيراً ليتعاظم قلقها: لمَ ليست قلقة مثلي؟ هل أنا بهذا الغباء؟ كيف لهذه الحمقاء أن تكون واثقة لهذا الحد؟

في هذه اللحظة تحديداً، دخل رجل أنيق للغاية لحدٍ مثير للإستفزاز، وكأن أمّه اختارت ثيابه وأملت عليه كيفية المشي والحديث والتصرف. لم تطل كلتا الفتاتين التفكير ليصلا في آن واحد إلى نتيجة مفادها أنه أحمق بلا شك، أو مفرط الذكاء على نحو سيودي بهما للهلاك. رغم امتلاء الفصل بالتلاميذ، إلا أنهما لم يدركا، أو لم ترغب كلتاهما بإدراك وجود الآخرين. في نهاية فصل واسع وفي طاولتان متجاورتان، لم يتواجد أحد سوى هؤلاء الثلاثة، كُلٌّ يرمق الآخر بنظرات استغراب وقلق.
تقدّم نحوهما ببطء، وفي لحظة أثارت دهشة و سخط الجميع في الفصل، أطلقت الفتاتان صرخةً متبوعة بضحك هستيري، حتى أن أحدهما اسندت رأسها على الأخرى لكيلا يسقط بفعل الجادبية. كتم الرجل ضحكته متظاهراً بالغضب.

"حسناً، أرى أنكما صديقتان الآن. ما اسمكِ؟"
"جلنار".
"جلنار..وصديقتكِ؟".

ضحكت الفتاتان بهستيرية مرة أخرى لأنهما لم يلتقيا قبل هذه اللحظة، وكأن الواقف أمامها عبدالناصر درويش وليس أستاذاً مرموقاً عاد للتوه من أميركا بعد إكمال دراسته.

"اسمي أمل".

ضحك الرجل ورجع خطوة للوراء، واضعاً كلتا يديه على طاولته ونظر نحوهما ثانيةً. في هذه اللحظة، أدرك أن هذا الفصل الدراسي لن ينتهي على خير بوجودهما معاً في ذات الفصل.

التفتت جلنار وأمل اتجاه بعضهما في نفس الوقت، وابتسمت كلتاهما بخبث للأخرى.

"ممكن تعطيني رقمك؟"

ضحكت أمل بهستيرية وأخذت هاتف جلنار، وكأن سؤالها لم يعني لها شيئاً لشدة بديهيّته. انتهت الحصة الأولى وعاد الجميع إلى ممارسة هرائهم وحيوانيّتهم اليومية من أكل وشراب، إلّا جلنار وأمل. فقد كان ذلك اليوم شاهداً على خمسٍ سنوات قادمة مليئة بنقاش فكريّ فاتن سيغيّر فكرة الجميع عمّا عهدوه عن أنفسهم.



يتبع ..