إمَّا أن يكون الجميع مصابون بالفصام أو أنا وحدي. أيَّاً يكُن، لا يُمكن أن نعيش معاً في ذات الواقع الذي نظنّ أننا نعيشه. وما الواقع سوى ما نختار سماعه ورؤيته والإيمان به؟ هذه الهلوسات .. هذا الصوت الذي يُناديني من الداخل ويدعوني لما يجعلني مريضة ومجنونة وتافهة في نظر الآخرين، هو الصوت الوحيد الذي أؤمن به. حتى صوت المحاضر لا يبدو لي حقيقياً .. بل مُجرد ترددات صوتية اختلقها الأخرين لتُضعف حِدَّة الأصوات الحقيقية بدواخلنا. لا يُمكن أن تكون قاعدة النحو تلك أهمّ من هذا الصوت الذي يُقاتِل ليُسمع، كما لا يُمكن لثرثرة عديلة ووصيفاتها أن تُعادل أهمّية رغبتنا المُلّحة في سماعِ صوتٍ أخرس يُمثل كل ما نحن بحاجةٍ إليه لنحظى بدقيقة سلام. كل ما يُمكن أن نراه قد رأيناه وكل ما أمكننا سماعه قد سمعناه، لا توجد مرحلة أخرى في هذه العمليّة التي لا يتعبّها السهر لتنال من حقيقتنا وهوّياتنا المضطهدة. لا يُمكن -تحت أيِّ ظرف- أن توجد حياة أخرى أشدّ بؤساً أو جمالاً من هذه الحياة، الإيمان بذلك كإيمانك بأنَّ الموزة المتعفّنة بجانبك ستتحول فجأة إلى تفاحة. كل من أمكنهم إقناع أنفسهم بذلك مجرد ضحايا للأمل. هذا الفكّ العريض الذي التهمنا جميعاً ولم يشبع بعد.
هذا الصوت الداخليّ .. هذا الصوت الأهم من كلّ صرخات الحياة الأولى .. هو كل ما يمكننا الإتِّكاء عليه بثقة وبلا قلق. هذا الصوت الذي قُتل مراراً وازدادت حدّتهُ في كُلِّ مرّة، هو ورقتنا الرابحة الوحيدة. لطالما أشفقت على من يبحثون عنه في الكتب والأديان والصلوات والأساطير. لا يُجيدون أن يخرسوا قليلاً .. قليلاً فقط .. ليسمعوا الصوت الوحيد الذي سينقذهم من فظاعة الحياة. هذا الإنقاذ لا يعني عدم وجود إصابات أو وفيّات، بل يعني قدرتك على الوقوف أمام مجتمعك وحياتك وأقنعتك وخوفك وطفولتك وأن تقول: هذا أنا .. هذا أنا.