لستُ قارِئةً مُجتهِدة، لهذا أُقدِّرُ جميعَ الكتبِ التي أُنهيها لأنّها قد تكون الأخيرةَ بعدَ عودةٍ مُستحيلة .. أتذكّرها جيداً كمن يتذكّر فقيدهُ الأخير الذي دُفِنَ في ساحةٍ خضراء، لِكُلِّ كِتابٍ ساحة .. تتباينُ درجاتُ الخضرةِ فيها لكن جميعها تملِكُ نفسَ اللحن الذي يُدركُ المارّونَ خِلالها أنّهُ مِنها، أمّا بِالنسبةِ لي .. فإنَّ الكتاب الذي اختارَ أن يُدخِلَ الخضرةَ في قلبي على أن يُدفنَ فِيها جاعلاً إيّاه حيّاً بي ومني هو رواية مائة عامٍ مِنَ العزلة .. تغلغلت ألحانُ هذه الرواية إلى صدري كما لم تفعل مقطوعةٌ قط، أسرتني للحدِّ الذي جاهدتُ فِيهِ لِكيلا أُنهيها .. كمن يصبُر عن بلوغِ نِهايةِ النّشوة ويُحاوِلُ مُحمرَّ الوجنتين ألّا تنتهي تِلكَ الحظة التي تسبقُ الإكتفاء، وقد بلغَ صبري على التمّهلِ فِيها شهراً كامِلاً رغم قدرتي على إنهائِها في أسبوع .. تسحرُ الأفئِدةَ كما لم تفعل عصاً سِحريّة من قبل .. قربيةٌ مِنكَ للحدِّ الذي تظنِها قِصّتك .. تُعلِّق شخوصها في مُقلتيك حتّى يُثيرُ بؤسَكَ موتُ إحداها .. لن تنجح قط في إقناعِ نفسِكَ أنّها أحداثٌ وشخوصٌ مُتخيّلة رُغمَ خروج الأحداث فيها عن نِطاقِ عالمِك .
بعدَ إنهائي لها تأّوّهتُ كمن أنهى لتوِّهِ قراءةَ رسالةِ مِن عاشِقهِ .. تمنّيتُ لو منحني الحظُّ فرصةً لأسكنَ يوماً واحِداً في عالمِ ماركيز الذي لا يعرِفُ حدوداً .. كنتُ سأعِدهُ أن أكونَ مُواطِناً صالِحاً كيلا يُفنيني مِن عالمِه الذي لن تتّسع لهُ حواسّي لعمقهِ الشّديد .. عالمٌ مليءٌ بالإحتمالاتِ اللامُنتهية ورائِحة السّحر الجميل التي تُحرّكها الفوضى وقلبُ ماركيز الرّقيق .. دافئٌ كالثّوبِ الأول الذي حاكته يد أمّك لَك .. عذبٌ كمشيتكَ الأولى وأنت تُحاوِل تخطّي العائِق الأوّل فتسقط .. بريءٌ كطفلٍ يطلبُ مُسدّسكَ ظناً مِنهُ أنّه لعبة.
شُكراً ماركيز .. شُكراً بحجمِ جميعِ الحدودِ التي أسقطتها عن خيالِنا الذي تعفَّنَ مِن عالمٍ رحلتَ عنه .. شكراً أيّها الغالي جداً على الكلِمات .. المجدُ لكَ أيّها الأبديّ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق