الفِطرة الأولى
(1)
بقلوب مُترعةٍ بقلقٍ غريب باعث للإطمئنان،
جلست إحداهما بجانب الأخرى دون الإلتفات إليها.
بينما كانت تتحرك يمنة ويسرة بحثاً عن بقعة
مريحة في الكرسي الصغير المكسور، فكرت أن قلقها ناتج عن حدسٍ سليم بأن الأيام المصيرية
القادمة ستحدد العشرين عاماً القادمة في حياتها. لم تكف عن نقر الطاولة بأصابعها
ذات الأظافر القصيرة والدموية من فرط قضمها.
حتى هذه اللحظة، لم تفكر بالإلتفات ليسارها لرؤية
الكائنة الغامضة بجانبها. كانت جالسة دونما حراك، واضعة كفها على خدها الأيمن ومتسمّرة
تتأمل السبورة البيضاء أمامها. لم يبد أنها تكترث لشيء، ولا حتى لحجابها الذي يكاد
يسقط. لم تكترث لشيء سوى النظر للفراغ في مشهد أثار ريبة الفتاة بجانبها، والتي التفتت
أخيراً ليتعاظم قلقها: لمَ ليست قلقة مثلي؟ هل أنا بهذا الغباء؟ كيف لهذه الحمقاء
أن تكون واثقة لهذا الحد؟
في هذه اللحظة تحديداً، دخل رجل أنيق للغاية
لحدٍ مثير للإستفزاز، وكأن أمّه اختارت ثيابه وأملت عليه كيفية المشي والحديث
والتصرف. لم تطل كلتا الفتاتين التفكير ليصلا في آن واحد إلى نتيجة مفادها أنه
أحمق بلا شك، أو مفرط الذكاء على نحو سيودي بهما للهلاك. رغم امتلاء الفصل
بالتلاميذ، إلا أنهما لم يدركا، أو لم ترغب كلتاهما بإدراك وجود الآخرين. في نهاية
فصل واسع وفي طاولتان متجاورتان، لم يتواجد أحد سوى هؤلاء الثلاثة، كُلٌّ يرمق
الآخر بنظرات استغراب وقلق.
تقدّم نحوهما ببطء، وفي لحظة أثارت دهشة و سخط
الجميع في الفصل، أطلقت الفتاتان صرخةً متبوعة بضحك هستيري، حتى أن أحدهما اسندت
رأسها على الأخرى لكيلا يسقط بفعل الجادبية. كتم الرجل ضحكته متظاهراً بالغضب.
"حسناً، أرى أنكما صديقتان الآن. ما
اسمكِ؟"
"جلنار".
"جلنار..وصديقتكِ؟".
ضحكت الفتاتان بهستيرية مرة أخرى لأنهما لم يلتقيا
قبل هذه اللحظة، وكأن الواقف أمامها عبدالناصر درويش وليس أستاذاً مرموقاً عاد
للتوه من أميركا بعد إكمال دراسته.
"اسمي أمل".
ضحك الرجل ورجع خطوة للوراء، واضعاً كلتا
يديه على طاولته ونظر نحوهما ثانيةً. في هذه اللحظة، أدرك أن هذا الفصل الدراسي لن
ينتهي على خير بوجودهما معاً في ذات الفصل.
التفتت جلنار وأمل اتجاه بعضهما في نفس
الوقت، وابتسمت كلتاهما بخبث للأخرى.
"ممكن تعطيني رقمك؟"
ضحكت أمل بهستيرية وأخذت هاتف جلنار، وكأن
سؤالها لم يعني لها شيئاً لشدة بديهيّته. انتهت الحصة الأولى وعاد الجميع إلى
ممارسة هرائهم وحيوانيّتهم اليومية من أكل وشراب، إلّا جلنار وأمل. فقد كان ذلك
اليوم شاهداً على خمسٍ سنوات قادمة مليئة بنقاش فكريّ فاتن سيغيّر فكرة الجميع عمّا
عهدوه عن أنفسهم.
يتبع ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق