إبّان معضلةٍ إنسانيةٍ سحيقة واجهتها، تفكّرت في كل
رابطة بشرية تجمعني بالعالم، محوطة بي بسهام التوقعات والأسوار المجتمعية الزائفة،
مصنفةً لي بالـ"المواطنة"، كيفما شاء ذلك واتفق مع قوانين "التوطين"
في بلدي، غارسةً فيَّ روح التيه بأعمق مما ظنت قدرةَ أيِّ شيءٍ على غزوِ دواخلي.
توصّلت -في الليالي التي شربتُ فيها كمياتٍ قاتلة من الحليب- إلى أنني لم أنصف
نفسي قط، وأنني لم أنظر إليها، ولا حتّى بأتفهِ المعاني وأكثرها عفويةً، نظرةً فردية،
بل تكللت وجهات نظري عنّي بوجهات الآخرين عمّا يرونه بي، وعن تفسيراتهم لما أمنحه
لهم على غير هوادة. لو أنَّ الجميع اختفى لوهلةٍ، لضِعتُ، ولما دللتُ الطريقَ
إليَّ، ولاصطبغت تصرفاتي بكل الشخصيات المتناقضة والمؤثرة التي اختبرتها في
الآخرين. في وهلةٍ كتلك، سيخبو إحساسي بمعناي، وذاتي، ولُكنت خِلالها كُلَّ شيءٍ،
غير ما أنا عليه حقاً. لكُنت الجميع، منهم من نهروني، منهم من ملأني بصخبٍ شعوريّ
كنتُ في غِنى عنه، ومنهم من لم يعرفني حقاً، ولم أعرفه، لكنني .. لوهلةِ، أكونُ
هؤلاء جميعاً، لأن كل المرايا التي اعتدت رؤية نفسي فيها من خلال تقديرات الآخرين
قد تهشّمت، وتهشّم معها حِسّي بنفسي. نحن لا شيء حين نسمحُ للآخرين بتأليفنا دوناً
عنّا. أنت لا شيء حِين تختزل علاقتك بالآخرين لأغراضٍ إرشادية، مرورية .. تقودك
لنفسك. أعلم، لقد سأمنا جميعاً من هراء المتحدثين بالتنمية البشرية، لم تسقط عيني
على أحدهم دون أن أشعر بأنه حشرة، تتحرشج وسط حلقي وتمنعني من التنفس والكلام اِلتياعاً،
واِعتباطاً. لكن لغرضٍ وجوديّ بحت، ولكيلا تُصدم بتيهك حين تفقد توجيهات الآخرين
نحو نفسك، أخبرك، بينما ترسو وسط بلعومي بقايا حشرةٍ متحشرجة، أن تتأكد مِراراً من
مجاديفك. أنت لست من تظن، بناءً على ما يظنون. هل يعجبك فنّك حقاً؟ هل أنت فخورٌ
بما تخربشه من رسوماتٍ حسّاسة؟ أم أنَّ هذا رأي الآخرين فيك فحسب، بقيت متعلّقاً به
كيلا تُشفق على نفسك، ويستلمك الأسى من حيث لم تحتسب؟ هل فكرت من خوفهم في
مواجهتك؟ هل تمعّنت مُطولاً في صديقك حين يمتدح نصّاً لك؟ هل رأيتَ، بأمِّ روحك، رثاءه
لكَ، حِين يرى انحسارك في موهبتك، لكن يخبئها بحذرٍ في جيبه؟ أين أنت من حرب المجاملات؟
وما الذي تجنيه أنت، وهم، من تبادل العسلِ الكلاميّ، دون أدنى صدق، لكن بشرف؟ لست
مضطراً للنظر للآخرين لتنظر لنفسك، لطالما كُنت موجوداً، قبل أن يكونوا. أنت من
أكلت التراب بمفردك من زوايا النافذة، وأنت من قررت خلع نعالك، لتنتشي وحيداً في
التراب، بينما يغرس الحصى زواياه الحادة، وتخرم الأشواك باطن قدمك الطريّ، الناعم.
أنت كُنت أولاً، لا آدم، ولا كُّل الفوضى التي تبعته. من ستكون حقاً، في كوكبٍ
آخر، وبين مخلوقات لم ترها قط، وافدةً إليك من عوالم بعيدة؟ أتدرك حقاً، بكامل
وعيك، الفرق بين أن تكون "البشريّ أنت"، و "نفسك أنت"؟ ماذا
ستكون إن كُنت قرداً يلعق الحشرات من جبين رفيقه القرد، أو طيراً تتقاذفه الريح في
جبال التبت؟ ماذا ستكون، إن كُنت ورقةً، صمّاء، في جوفِ أنبوبِ صرفٍ صحيّ؟ من أنت
حقًاً، دون أن تكون الإنسان الإجتماعيّ، المُواطن، الأب، الأخ، والصديق؟ إلى ماذا
ستقودك غرائزك؟ أو، بصيغةٍ أدقّ، من أين ستنبع غرائزك؟ من سيخلقها، حين تُقرر تكميم
اذنك فِراراً من تعريفات الآخرين لك، وهلعاً من سِهامهم المنغرسة بعمق في لاوعيك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق